علم ينتفع به- عناصر قوة الدولة – ج2
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه, ملء السموات وملء الأرض وملء ما شاء من شيء بعد, والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى أله وصحبه أجمعين, والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
روى البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أتبايعونني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا, ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم – وقرأ آية النساء – فمن وفى منكم فأجره على الله, ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له, ومن أصاب منها شيئا من ذلك فستره الله, فأمره إلى الله, إن شاء عذبه, وإن شاء عفا عنه».
فإذا كان من رحمة الله ونعمته علينا في ظل تطبيق الإسلام أنه لا يعاقبنا في الآخرة على الجريمة أو الإثم الذي نرتكبه لأننا عوقبنا عليه في الدنيا بالعقوبة التي قدرها الله, كما لو زنى الزاني المحصن فرجم, ولكننا نعاقب عليه في الآخرة إذا لم نعاقب في الدنيا بالعقوبة التي قدرها الله, وكما لو سرق السارق ما زادت قيمته على ربع دينار من الذهب, وانطبقت الشروط الشرعية على إقامة حد السرقة, فحبس السارق بدلاً من قطع يده في حال تركنا تطبيق الإسلام.
فأي خسارة على المسلمين أعظم من خسارتهم عدم إسقاط العقوبة عنهم في الآخرة بسبب حكمهم بغير ما أنزل الله؟ وقد كان واحدهم إذا ارتكب فاحشة فخاف عذاب الآخرة أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: طهرني. كما حصل مع ماعز ومع المرأة الغامدية, وقد قال صلى الله عليه وسلم في ماعز بعد رجمه: « إنه ليتسبح في أنهار الجنة!». وقال في المرأة الغامدية بعد رجمها: « لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينه لوسعتهم!».
إن تطبيق الشريعة الإسلامية رحمة للمسلمين, بل هو رحمة للعالمين جميعاً بدليل قوله تعالى: (وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين). فشريعة الله زواجر وجوابر: تزجر الناس عن ارتكاب المعاصي, وتجبر عنهم عذاب الآخرة, هذه النعمة العظيمة تحصل للمسلمين في حال تطبيق الحاكم عليهم أحكام الإسلام, ويحرم منها المسلمون في حال ترك تطبيقه, وتطبيق الأحكام الوضعية عليهم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: « حدٌ يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً». فكيف إذا أقيمت حدود الله كلها؟!
وإذا كان في إقامة الحدِّ الواحد من حدود الله من الخير والرحمة ما يعادل مطر أربعين صباحاً, فإنه في عدم إقامته خسارة لكل هذا الخير والرحمة, فكيف تكون خسارة المسلمين في هجر أحكام الله التي جاء بها القرآن الكريم؟
بل كيف تكون خسارتهم في استبعاد نظام الإسلام كاملاً؟
كيف تكون خسارتهم في عدم إقامة حدود الله كلها؟
كيف تكون خسارتهم في إقصاء أحكام الإسلام من واقع الحياة؟
ففي ترك المسلمين التحاكم بشرع الله القويم, فإنَّ الله تعالى يجعلهم يعيشون معيشة ضنكاً, ويسلط عليهم من لا يخافه ولا يرحمهم, وقد حصل وتحقق فيهم قول الله تعالى: ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ).
وفي ترك المسلمين التحاكم بشرع الله القويم تصبح بلادهم دار كفر بعد كانت دار إسلام وفقاً للقاعدة التي استنبطها العلماء, والتي تقول: (( تكون الديار ديار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها, وتكون الديار ديار كفر بظهور أحكام الكفر فيها )).
يقول الله تعالى في سورة البقرة: ( ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب). ونعمة الله في الآية هي الإسلام بعقيدته وشريعته, وتبديلها بغيرها كفر. يقول تعالى في سورة إبراهيم: ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار).
وتبديل حكم واحد من أحكام الإسلام بغيره هو كفر كذلك أيضاً لقوله تعالى في سورة البقرة: ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاَّ خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون).
إن تطبيق أحكام الإسلام على الناس منوط بالحاكم, فهو الذي بتطبيقه الأحكام يجعل نعمة الله تعمُّ الرعية, وبترك تطبيقها يحرمهم هذه النعمة, ويحول دارهم من دار إسلام إلى دار كفر, وإذا شرَّع لهم تشريعاً من عنده, فأحلَّ لهم ما حرَّم الله عليهم, كأن أقرَّ في تشريعه التعامل بالربا, أو أباح لهم فتح الخمارات في الأماكن العامة كالأسواق, وأعطى الحرية للنساء أن يخرجن كاشفات لعوراتهنَّ, أو سمح بفتح النوادي للرقص وغيره, وحرَّم عليهم الحلال كأن يمنع عليهم مجاهدة العدو بإغلاق باب الجهاد في سبيل الله, أو منعهم من إقامة حزب أو أحزاب على أساس الإسلام أبيحت لهم بناء على قوله تعالى في سورة آل عمران: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) أو منعهم من الدعوة لإعادة تطبيق الإسلام إذا كان معطلاً, أو منعهم من إحياء الأرض الموات أو منعهم من اقتناء السلاح أو حمله أو منع القضاة من أن يفضوا مشاكل الناس حسب أحكام الإسلام.
فإذا فعل ذلك فقد نصب نفسه رباً لهم لأن التشريع لله وحده, فهو الذي يحلل وهو الذي يحرم, وليس لأحد من الخلق أن يفعل ذلك.
والذين يرضون بتشريعه ويوافقونه عليه ويعملون به ويتخذونه رباً بدلالة قوله تعالى في سورة التوبة: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ).
روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير عن عدي بن حاتم، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك، فطرحته، فانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة، فقرأ هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) حتى فرغ منها، فقلت: إنا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله، فتستحلونه؟ قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم.
وهذا العمل أي الرضا بتشريع هؤلاء الحكام شرك بالله, والله تعالى يقول في سورة النساء: ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ).
أيها القضاة في المحاكم المدنية والمحاكم العسكرية ومحاكم أمن الدولة وغيرها من أنواع المحاكم, أيها المدعون العامون, أيها المحامون, إنكم بتطبيق الأحكام الوضعية والعمل بها في حلول المشاكل التي تحدث بين الناس أو بين الدول أو بين الشعوب والأمم والتي شرعها المشرعون سواء أكان الحكام أو اللجان القانونية في مجالس الأمة أم ناشئة من مواثيق الأمم, إنكم بممارستكم لهذه الأحكام والعمل بموجبها قد اتخذتموهم أرباباً وأشركتموهم مع الله في أحقية التشريع, فإذا رضي المشرعون لأنفسهم بالكفر فكيف تقبلونه أنتم وتطيعونهم؟ فإلام تظلون سادرين في غيكم, عاصين لربكم وقد وجه إليكم الخطاب, وحباكم عقولاً تفهمون بها الخطاب فقال تعالى في محكم كتابه في سورة النساء: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ).
أيها القضاة, أيها المدعون العامون يقسم رب العزة ويؤكد على قسمه أن من لا يحكم الشرع فيما يحصل بين الناس من مشاكل لا يؤمن, وأنه لا يتم إيمانه إلا بالتسليم الذي ينفي الشك من نفسه بحيث لا يشعر بالحرج من الحكم الصادر بموجب شرع الله, ولن يكمل إيمان المسلم حتي يوطد نفسه ويعودها على التسليم بقبول الحكم الشرعي الوارد في كتاب الله وسنة رسوله أو ما انبثق عنهما أو بني عليهما, فالمؤمن حقيقة هو الذي تكون نفسه منقادة لما أتى به الرسول عن طريق الوحي, ويكون هذا الانقياد سجية وميلا نفسياً مصحوباً بالرضا والتسليم, فإذا أحس المرء أن نفسه تنقبض عندما يمنعه شرع الله من التعامل بالربا أو من شراء أوراق اليانصيب أو من أخذ الرشوة أو إعطائها فليتحسس منطقة إيمانه وليراجع نفسه. وإذا أحس أن نفسه ترغب في شرب الخمر مثلاً, وأن الأنثى ترغب بالخروج من البيت متبرجة أو كاشفة رأسها فليتحسس كل منهما قلبه فإنه لا يكون حينئذ مكتمل الإيمان ولا يكون هواه مع شرع الله لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به».
أيها القضاة يقول الله تعالى في سورة المائدة: ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) هذا خطاب الله للرسول صلى الله عليه وسلم وخطابه للرسول خطاب لأمته, وأنتم بعض أمته فهو خطاب لكم, فالمطلوب منكم أن تحكموا بين الناس بشرع الله لا بأحكام الطاغوت, ويحذركم من فتنة الحكام الذين نأوا بكم عن شرع الله فلا تتخذوهم أرباباً لكم فتحشرون معهم في النار, واقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى في سورة إبراهيم: ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار, وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار).
إن المشرعين بدلوا نعمة الله ( العقيدة الإسلامية وما انبثق عنها من الشريعة ) بأن أحلوا محلها العقيدة الكهنوتية التي هي فصل الدين عن الحياة, وأحلوا أحكام الطاغوت محل شرع الله ونصبوا أننفسهم أنداداً لله أي خصوماً له فأسقطوا أو بعبارة أدق فعطلوا شرعه, وأقاموا شرعهم ليبعدوا المسلمين عن دينهم.
أيها القضاة يقول الله تعالى في سورة النساء: ( إنا أنزلنا إليك الكتاب لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ), يطلب الله تعالى منكم أن تحكموا بين الناس بما تفهمونه من كتاب الله, والطلب هنا طلب جازم لقوله تعالى في سورة المائدة: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ), والطلب حينما يكون جازماً يكون فرضاً.
ويقول الله تعالى كذلك في سورة المائدة: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون), ويقول في نفس السورة: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون). وكلمة (من) من ألفاظ العموم والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, وهي وإن نزلت فيمن أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنها عامة في كل من حكم بغير ما أنزل الله, فاختاروا أيها القضاة لأنفسكم ما شئتم من الكفر أو الظلم أو الفسق, إن بقيتم تحكمون بين الناس بغير ما أنزل الله, فاتقوا الله واعلموا أنكم موقوفون غداً بين يدي الله ومحاسبون, فاعملوا بالحق ليوم لا يقضى فيه إلا بالحق, تنزلوا منازل الحق, وإن من لم ينتفع بالحق ضره الباطل, ومن لم يستقم به الهدى جار به الضلال.
أيها القضاة قد تقولون ماذا نعمل إذا تركنا القضاء ولم نتعود على عمل غيره؟ وكيف لنا أن نكتسب قوت أبنائنا وأهلنا وقد تعونا مستوىً معيناً من العيش؟ اعلموا أن ذلك من وساوس الشيطان, فرزقكم ورزق أهلكم من عند الله لأنه هو الرزاق. قال الله تعالى في سورة الذاريات: ( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) وقال تعالى في سورة الرعد: ( إن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ). فلا تجعلوا للشيطان سبيلاً عليكم فيصرفكم عن طاعة ربكم, وثقوا بوعد ربكم إذ يقول في سورة البقرة: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء, والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم ).
أيها القضاة, أيها المدعون العامون, أيها المحامون: اتقوا الله امتثالاً لقوله تعالى: ( واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ). اتقوا الله امتثالاً لقوله تعالى: ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ).
اتقوا الله, واعملوا ليوم تبيض فيه وجوه وتسود وجوه, ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ). إنه يوم المحاسبة, ويوم المساءلة, ويوم الزلزلة, ويوم القارعة التي تقرع القلوب الغافلة. هدانا الله وإياكم إلى الحق, وسدد خطانا وخطاكم على الصراط المستقيم, آمين آمين آمين يا رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته