مع القرآن الكريم- وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها
يقول الله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)
هذه الآية من القرآن الكريم الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم لينظم به شؤون حياتنا، هذه الآية في قراءتها وتفهمها وتدبرها تؤجج الناحية العملية تلقائياً عند المسلم، أي تجعل عنده شعور للعمل الفوري ابتغاء مرضات الله، لينال رضى الله الحكيم العليم، ففي هذه الآية أوامر من الله للعبد ووجوب الالتزام بها والمثابرة عليها، وفيها طمأنة للنفس على إشباع حاجاته كي يصرف الإنسان جل تفكيره في تلبية أوامر الله ونواهيه، فيقوم بالأعمال على الوجه الذي يريده ويحبه الله، متشوقا الوصول إلى الكمال دون الالتفات عنها إلى متع الدنيا، ومن أجل ذلك سأبين بعض جوانبها من خلال تبيين مفرداتها وحملها وبيان المعنى العام للآية ثم تعليقا مقتضبا عليها، فأبدأ بقوله سبحانه (وأمر) الأمر معناه طلب الفعل على وجه الاستعلاء، والطلب هنا من الله سبحانه إلى رسوله وخطاب الله لرسوله هو خطاب له ولأمته، وبهذا يكون هذا الطلب هو أمر لعباده المؤمنين وهذا الأمر هو للوجوب بقرائن دلت عليه منها قوله تعالى: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ) والأمر بالقتل والقتال هو بحد ذاته يدل على الوجوب لحرمة قتال الإنسان بغير وجه حق فالأمر بقتل إنسان معين يدل على أن الأمر بقتله دل على الوجوب، والآية تقول: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ) أي قاتلوهم حتى يقيموا الصلاة وهذا فيه تشديد على الأمر بالصلاة، بل قتالهم حتي يقيموا الصلاة، والقتال يأتي بعد البيان لهم بالحجج والبراهين المقنعة أن الصلاة فرض عليهم، ولا يقال إن هذه الآية خاصة في عرب الجزيرة لأن الجهاد فرض لنشر الإسلام في الجزيرة العربية وفي غير الجزيرة، فسبب الجهاد هو نشر الإسلام ولكن سبب وقف القتال بالنسبة إلى جزيرة العرب هو الدخول في الإسلام جميعاً وأما سبب وقف القتال في غير جزيرة العرب فهو إما الإسلام أو الجزية أو أمور أخرى لا محل لها هنا، فإذا كان سبب الجهاد هو تطبيق الإسلام، وقبل الشروع في القتال يجب بيان الإسلام بشكل واضح وأصل الإسلام هو الصلاة فيكون الأمر بالصلاة للوجوب، هذا وأثني بكلمة (أهلك) فالأهل هم أول من يبدأ بدعوتهم للصلاة، يقول الله تعالى: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ثم تمتد الدعوة إلى كل من يستطيع المسلم أن يصل إليه ولا يجوز الوقوف عند حد معين لقوله تعالى: (َولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) والخير هو الإسلام يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «جئتكم بخيري الدنيا والآخرة» أي جئتكم بالإسلام، وكلمة (يدعون) فعل متعد أي يحتاج إلى مفعول وقد حذف المفعول هنا حتى لا تنحصر الدعوة في المذكور فقط فتقف عند حده فحذف المفعول حتى تمتد الدعوة إلى كل من يستطاع الوصول إليه، يقول تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) ولا يفهم من كلمة (أهلك) ما يردده بعض المتفيهقين إذا صلح الفرد صلح المجتمع وعلى كل إنسان أن يصلح نفسه وأهله فتأتي الدولة تلقائياً، فلا يجوز هذا الفهم ولا يجوز العمل بمقتضاه، بل على المسلم أن يدعو أهل بيته وغيرهم وأن يعمل لإيجاد المجتمع المسلم بالكيفية التي بينها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة حتى أقام الدولة وحينها طبق الإسلام عملياً في جميع شؤون الحياة، وبعد هذا البيان نأتي إلى كلمة (بالصلاة) وهي تعني نظام الحكم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) فشبه الرسول الصلاة بالعامود والعامود هو الذي يحمل كل ما يترتب عليه فإمعان النظر في عامود الخيمة يرى أن كل جزء من أجزاء الخيمة مرتبط بالعامود فإذا أزلنا العامود سقطت الخيمة بكاملها، وكذلك الأحكام الشرعية بالنسبة إلى الصلاة، فالإسلام كل لا يتجزأ والصلاة هي الرابط لجميع الأحكام، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) فعدم الالتزام بجميع الإسلام إتباع للشيطان فدل الأمر بالدخول في الإسلام كافة هو للوجوب، وعند التدبر بكلمة (الصلاة) في القرآن نجدها وردت مقرونة بالإقامة أحياناً ومجردة منها أحياناً أخرى وبالتدقيق في هذا نرى أن المديح من الله للمقيمين الصلاة، فقال سبحانه في سياق المدح: (والمقيمين الصلاة) (وأقاموا الصلاة) وفي الذم جاءت مجردة من الإقامة فقال جل وعلا: (فويل للمصلين) أي الذين لم يتبعوا متطلبات الصلاة من نظام اقتصادي وغيره أي أنهم قاموا بالعبادات وتركوا المعاملات ويقول سبحانه: (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس) وفي صيغة الأمر جاءت مقرونة بالإقامة، يقول تعالى: (أقم الصلاة) و (أقيموا الصلاة) وعندما جاءت مجردة في المدح عرفت صاحبها فأعطته أوصافاً بياناً لمعنى الإقامة يقول سبحانه: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ َالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ) فبينت هذه الآيات من هم المصلون الذين أقاموا الصلاة بحق، وهذه الآيات وما قبلها أخبرتنا عن أهل النار وأهل الجنة فبينت صفات من اتصف بها استحق عقاب الله نسأل الله العافية وبينت صفات من اتصف بها ناله رضوان الله سبحانه نسأله أن نكون منهم، وهذه الآيات كلها خبرية ولم تأت بصيغة الأمر ونفهم من دلالة الاقتضاء أنها للطلب سواء كانت طلب فعل أم طلب ترك والطلب هنا جازم لأن في طلب الفعل مديح وثواب لمن يطع، وعقاب لمن لم يطع، وفي طلب الترك وعيد وعقاب لمن يعصي الله.
وبعد أن فهمنا قول الله (وأمر أهلك بالصلاة) نأتي إلى كلمة (واصطبر) والصبر هو الحبس وفي كلمة واصطبر معنى زائد على كلمة اصبر لأن وزن اصطبر من أفعال المطاوعة أي مطاوعة المفعول للفاعل فيما يفعله به وهي من باب أصلح! اصطلح واسلب! استلب واعرف! اعترف، أي قم بالعمل دون أن تنتظر أمراً من أحد فعندما تقول (كسرته فانكسر) غير عما تقول ( كسرته فكسر) لأن كلمة انكسر تعني انكسر لوحده ولكن كلمة كسر استجاب لمن كسره واصطبر تعني قم بعملية الصبر على هذه العبادة لوحدك طواعية دون أن تنتظر من أحد الأمر بالصبر، وهذا فيه حث للمسلم على مداومة ما طلب منه دون النظر إلى من يتابعه أو يحاسبه فيقوم بالعمل نشيطاً جاداً خالصاً لله تعالى راجياً ثواب الآخرة من الله حاثاً غيره آخذاً بيده غير منتظر حتى تأتيه الأوامر بالعمل فيكون هو المحرك غير متقاعس ينتظر من يحركه بل يكون هو القائد لا المقود والصبر هو الثبات على فعل ما هو مطلوب وإن أصاب الإنسان جراء ما يقوم به من عمل أذى أو عنت لا يلين ولا يستكين يبقى حابساً نفسه على ما يجب أن يقوم به إلى أن يصل إلى مبتغاه فيكون قد عز في الدنيا ونار رضى الله في الدنيا والآخرة، ولما قال سبحانه: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) لم يترك هذا المأمور مشوش الفكر بين طاعة أمر الله وبين مشاكل الحياة في جمع الثروة، أو التوفيق بين القيام بما فرض عليه وبين جمع المال فطمأن الله الإنسان بقوله (لا نسألك رزقا) أي لا نطلب منك رزقاً لأننا لسنا بحاجة لرزقك بل نطلب منك أن تقوم بما أمرناك به بجد وإخلاص وأن تترك عملية الرزق لنا وأنت مرتاح البال من هذا الجانب وبما أن الأحكام الشرعية هي أوامر ونواة عملية مقدور عليها وليست تعجيزية صحيح أنها تكليفيه ولكنها تكليفيه سمحة ففي القيام بها يطمئن الإنسان ويشعر بالسعادة لأنه يكون قد نظم علاقاته وعالج مشكلاته وأخذ عليها أجراً -فتأملوا كرم الله- وبعد هذا يمن الله علينا ببيان نعمته فيقول (نحن نرزقك) فبين في هذه الجملة أنه لا تتعب نفسك في التفكير بهذا الأمر فنحن نرزقك وما عليك إلا أن تقوم بما هو مطلوب منك سواء من صلاة أو عمل أو حمل دعوة والنتائج ليست بيدك وإنما عليك العمل بجد في كل شأن من شؤون الحياة وأن تتوكل على الله أنه هو الذي وهبك القوة لتقوم بالأعمال وأنه هو بيده النتائج ثم يختم الله سبحانه بقوله: (والعاقبة للتقوى) فربط الله نتيجة أعمال الإنسان من حيث الثواب والعقاب بتقوى الله، والتقوى اسم لـ (اتقي) أي العاقبة لمن يتقي الله تقوى وتقوى الله هو الخوف من الله أي الالتزام بالحلال والحرام فالذي يلتزم بالأحكام الشرعية هو الذي يتقي الله أي يخاف عذاب الله، فربط الثواب والعقاب بتقوى الله يبين أن أعمال الإنسان مهما كثرت وكانت موافقة للأحكام الشرعية إن لم تكن منبثقة من مقياس الحلال والحرام أي من تقوى الله كلها ليست ذا قيمة ولذلك على المسلم حتى يكون شخصية إسلامية أن يدرك صلته بالله ويقوم بالأعمال بناء على هذا الصلة لينال رضوان الله ويفوز بالجنة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الأستاذ أبي عادل