مع الحديث الشريف عقوبة السجن
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْكِنْدِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ
جاء في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي
قَوْلُهُ: (حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ)
أَيْ فِي أَدَاءِ شَهَادَةٍ بِأَنْ كَذَبَ فِيهَا أَوْ بِأَنْ اِدَّعَى عَلَيْهِ رَجُلٌ ذَنْبًا أَوْ دَيْنًا فَحَبَسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَعْلَمَ صِدْقَ الدَّعْوَى بِالْبَيِّنَةِ ثُمَّ لَمَّا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ خَلَّى عَنْهُ
(ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ)
أَيْ تَرَكَهُ عَنْ الْحَبْسِ بِأَنْ أَخْرَجَهُ مِنْهُ وَالْمَعْنَى خَلَّى سَبِيلَهُ عَنْهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ . كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ وَقَالَ فِي اللَّمَعَاتِ : فِيهِ أَنَّ حَبْسَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَشْرُوعٌ قَبْلَ أَنْ تُقَامَ الْبَيِّنَةُ اِنْتَهَى .
الحبس الشرعي هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء أكان ذلك في بلد، أم في بيت، أم في مسجد، أم في سجن معد للعقوبة أم غير ذلك. وكان الحبس على عهد النبي r في بيت، أو في مسجد، وكذلك الحال كانت على أيام أبي بكر، فلم يكن هناك حبس معد للخصوم، فلما كانت أيام عمر اشترى داراً لصفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، وجعلها حبساً، وقد حبس عمر الخطيئة على الهجو، وحبس صبيغاً على سؤاله عن الذاريات والمرسلات والنازعات وشبههن، وروي عن عثمان بن عفان أنه سجن ضابئ بن الحارس، وكان من لصوص بني تميم وفتّاكهم حتى مات في السجن، وروي عن علي بن أبي طالب أنه بنى سجناً من قصب وسماه نافعاً، فنقبته اللصوص، ثمّ بنى سجناً من مدر وسماه مخيساً.
والسجن عقوبة من العقوبات كالجلد والقطع، فلا بد أن يكون مؤلماً للمسجون ألماً موجعاً، وأن يكون عقوبة تزجر، ولهذا فإنّه من الخطأ أن يقال يجب أن نجعل السجون مدارس للتهذيب، فالمدرسة غير السجن، المدرسة للتعليم والتهذيب، ولكن السجن لإيقاع العقوبة بالمجرم، فلا بد أن يكون على حال تكون عقاباً زاجراً وأن يكون بناؤه وغرفه وممراته على غير بناء وغرف وممرات المدارس والمنازل والفنادق وما أشبه ذلك، فيكون على شكل يثير الكمد والحزن، وأن تكون غرفه شبه مظلمة بأن تكون إنارتها نهاراً أو ليلاً وأن لا يسمح فيه بفراش وأثاث، بل يجعل للمسجون وطاء خشن من ليف ونحوه، وغطاء خشن من خرق أو خيش ونحو ذلك. وأن يكون طعامه خشناً وغير كثير، ولكنه لا بد أن يكون كافياً لتغذيته وبقائه متمتعاً بالعافية، ولا يمكّن أحد من الدخول عليه إلاّ أقاربه وجيرانه، ولا يمكثون عنده كثيراً، إلاّ أنه يجوز أن يسمح لزوجته أن تبيت عنده إذا رأى مدير السجن أن حال المسجون تقتضي ذلك، أو أن أخلاق المسجون وسلوكه في السجن حسنة، ويمنع من الخروج من السجن إلا لحاجة يقدرها مدير السجن، ولا يضرب ولا يغل ولا يقيد ولا يهان إلاّ إذا كان قرار القاضي قد نص على ذلك، ومن أظهر التعنت في السجن وضع في غرفة ضيقة منفرداً ( حاشرة ) وأقفل عليه الباب وترك له ما يقضي به حاجته، ويلقى إليه الماء والطعام من ثقبة الباب، ولكن نقل المحبوس إلى هذه الحاشرة لا يكون برأي مدير السجن، أو السجان، بل لا بد أن يكون بقرار من القاضي، لأنّها عقوبة تزيد عن العقوبة المحكوم بها، فتحتاج إلى قرار القاضي، وإذا احتاج الآمر لأنّ يشدد عليه الحبس، أو يخفف لا بد أن يرفع الأمر إلى القاضي، وهو الذي يعطي قراره حسب ما يراه، ولا يسجن المجرم إلاّ في بلده، لأنّ سجنه في غير بلده يعتبر تغريباً فيحتاج إلى قرار من القاضي، غير قرار سجنه، وهو عقوبة ثانية.
وتكون السجون أنواعاً حسب الجرائم المرتكبة، ويعين نوع السجن بقرار القاضي. ولا توجد جرائم سياسية وغير سياسية، ولا تمييز للصحفيين أو المحامين أو ما شاكلهم على غيرهم، بل ينظر لكل فعل قبيح بأنه جريمة. وصغر الجريمة وكبرها راجع لتقدير الإمام، لأنّه هو الذي يقدرها، فمن قدح بشخص أو ذمه يعاقب على ذلك، بغض النظر عن كونه صحفياً أو غير صحفي، ومن طعن بالحكم في غير أمر حق يعاقب على ذلك، بغض النظر عن كونه سياسياً أو غير سياسي، ولكن تقدير نوع العقوبة يجوز للقاضي أن يفاضل فيه بين الأشخاص، فيعاقب شخصاً بالسجن سنة، ويعاقب آخر من نفس الجريمة بالسجن أسبوعاً أو يعاقب شخصاً بوضعه في السجن الشديد القسوة، ويعاقب آخر بوضعه في سجن أخف، لما لديه من معلومات عنهما من كونه معروفاً بأنه مجرم، أو معروفاً بأنه من الأتقياء، وأن هذه هفوة أوقعه بها الشيطان، أو ما شاكل ذلك.