مع الحديث الشريف رحمة الله بعباده – الجزء الثاني
عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ”جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ” رواه البخاري
جاء عند الإمام ابن حجر في فتحه بتصرف يسير: قَوْله صلى الله عليه وسلم : (جَعَلَ اللَّه الرَّحْمَة فِي مِائَة جُزْء) الْمُرَاد بِهَا التَّعْظِيم وَالتَّكْثِير, وَقَدْ وَرَدَ التَّعْظِيم بِهَذَا اللَّفْظ فِي اللُّغَة وَالشَّرْع كَثِيرًا .
قَوْله صلى الله عليه وسلم: ( فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْء تَتَرَاحَم الْخَلْقُ, حَتَّى تَرْفَع الْفَرَس حَافِرهَا عَنْ وَلَدهَا خَشْيَة أَنْ تُصِيبهُ ) قَالَ اِبْن أَبِي جَمْرَة : خُصَّ الْفَرَس بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشَدّ الْحَيَوَان الْمَأْلُوف الَّذِي يُعَايِن الْمُخَاطَبُونَ حَرَكَته مَعَ وَلَده , وَلِمَا فِي الْفَرَس مِنْ الْخِفَّة وَالسُّرْعَة فِي التَّنَقُّل, وَمَعَ ذَلِكَ تَتَجَنَّب أَنْ يَصِل الضَّرَر مِنْهَا إِلَى وَلَدهَا.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيث أَنَّ اللَّه عَلِمَ أَنَّ أَنْوَاع النِّعَم الَّتِي يُنْعِم بِهَا عَلَى خَلْقه مِائَة نَوْع, فَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِنَوْعٍ وَاحِد اِنْتَظَمَتْ بِهِ مَصَالِحهمْ وَحَصَلَتْ بِهِ مَرَافِقهمْ, فَإِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة كَمَّلَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَا بَقِيَ فَبَلَغَتْ مِائَة وَكُلّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ, وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) فَإِنَّ رَحِيمًا مِنْ أَبْنِيَة الْمُبَالَغَة الَّتِي لَا شَيْء فَوْقهَا, وَيُفْهَم مِنْ هَذَا أَنَّ الْكُفَّار لَا يَبْقَى لَهُمْ حَظٌّ مِنْ الرَّحْمَة لَا مِنْ جِنْس رَحَمَات الدُّنْيَا وَلَا مِنْ غَيْرهَا إِذَا كَمَّلَ كُلّ مَا كَانَ فِي عِلْم اللَّه مِنْ الرَّحَمَات لِلْمُؤْمِنِينَ , وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) الْآيَة …. وَقَالَ اِبْن أَبِي جَمْرَة : فِي الْحَدِيث إِدْخَال السُّرُور عَلَى الْمُؤْمِنِينَ; لِأَنَّ الْعَادَة أَنَّ النَّفْس يَكْمُل فَرَحهَا بِمَا وُهِبَ لَهَا إِذَا كَانَ مَعْلُومًا مِمَّا يَكُون مَوْعُودًا. وَفِيهِ الْحَثّ عَلَى الْإِيمَان, وَاتِّسَاع الرَّجَاء فِي رَحَمَات اللَّه تَعَالَى الْمُدَّخَرَة. ))
إن الرحمة عند الإنسان تختلف عنها عند الحيوان, فإنها عند الحيوان والطير والهوام غريزة, فبالإدراك الغريزي عند الحيوان وغيره يحدد ويعرف ولده أو فراخه أو جراءه وأعشاشه ويحافظ عليهم ويرعاهم في صغرهم، أما الرحمة عند الإنسان فبالإضافة إلى كونها من الغريزة إلا أنها خلق مكتسب ينمى مرةً بعد مرةٍ بالممارسة مثل الصدق والكذب والكرم والبخل حتى يستقر الإنسان عليها لتكون سجية له وينتهجها في كل أمور حياته وربما كان القلب قاسيا والطبع جاف فيلزم صاحب هذه الطباع أن يعمل لتليين قلبه، فقد شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قسوة قلبه فقال له امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين. وفي رواية عن الطبراني أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم يشكو قسوة قلبه فقال له (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك..؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك).
إن الأحكام الشرعية هي الضابط الذي ينظم هذه العاطفة حتى يكون تدفقها له أصل ومن أجل غاية معينه فتصرف عن موطن وتتدفق في موطن ومثال ذلك أن الله جل وعلا فرض إيقاع العقوبة على الزاني وجلده…فرقة القلب عند المؤمن ومشاعر الرحمة موجودة ولكنها لا تتأثر بمشهد هذه العقوبة ولو كان مرتكبها قريباً كأخٍ أو أخت, فمن تشويهها توجيهها لمن لا يستحقها كالرحمةِ لكف العقاب عن الظالمين وكرحمةِ الأم الرعناء التي تهمل تربية ولدها إذا أساء حتى تفسده, وأيضا حين نمارسها في غير وقتها.