شرح مواد النظام الاقتصادي في الإسلام- المادة 120
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المستمعون: نواصل حديثان في شرح مواد الدستور، وهاهي المادة المائة والعشرون من مقدمة الدستور والثانية من مواد النظام الاقتصادي.
أم نص المادة:
(المشكلة الاقتصادية هي توزيع الأموال والمنافع على جميع أفراد الرعية، وتمكينهم من الانتفاع بها ، بتمكينهم من حيازتها ومن السعي لها)
إن المشكلة الاقتصادية في الإسلام هي فقر الأفراد, أي هي سوء توزيع الثروة على الأفراد، بحيث ينتج عن هذا التوزيع فقر أفراد الرعية، فيجب أن يعالج هذا التوزيع حتى تصل هذه الثروة لكل فرد،فالأدلة التي جاءت في الكتاب والسنة، كثيرة جدا ومتنوعة, وتلفت النظر إلى أن هذه المشكلة هي من مهمات الدولة التي يجب عليها ان توليها اهتماما كبيرا, ويجب عليها معالجتها بالسرعة الممكنة، فقد جعلت الأحكام الشرعية المعالجة فرضا على الدولة وفرضا على المسلمين، حتى أن بعض الأحاديث, قد نفت عمن يعلم بجوع جاره وهو شبعان, نفت عنه صفة الإيمان.
فالأدلة التي جاءت بشأن الفقير والمسكين وابن السبيل من القرآن الكريم, كثيرة جداً, يقول سبحانه تعالى: (وأطعموا البائس الفقير), ويقول سبحانه: (وما تنفقوا من خير يُوفَ إليكم وأنتم لا تظلمون, للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله) ويقول سبحانه: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم, وفي الرقاب, والغارمين و في سبيل الله وابن السبيل، والله عليم حكيم)، ويقول سبحانه: (ما أفاء الله على رسولهِ من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل… إلى أن يقول للفقراء والمهاجرين)، ويقول إن تبدوا الصدقات فنعما هي وان تخفونها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم)، ويقول سبحانه: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة,يتيماً ذا مقربة,أو مسكينا ًذا متربة).
وأما الأحاديث: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما أهل عَرصه أصبح فيهم امرؤ جائع, فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى)، ويقول فيما يرويه عن ربه (وما آمن بي من بات شبعان وجاره جائعٌ وهو يعلم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن لا يؤمن لا يؤمن)، قيل من يا رسول الله قال: (من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم ), فهذه الآيات والأحاديث التي وردت بالإنفاق, وأحكام الصدقات,وأحكام الزكاة ,وتكرار الحث على إعالة الفقير والمسكين وابن السبيل والسائلين, أي من تحقق فيهم صفةُ الفقر, كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن المشكلة الاقتصادية في الإسلام هي فقر الأفراد, أي هي سوء توزيع الثروة, وليس كما هو موجود في النظام الرأسمالي (الندرة النسبية والإنتاج وميكانيكية الثمن).
أما ما يتعلق بتمكين كل فرد من أفراد الرعية, من الانتفاع بهذه الثروة كما تنص المادة (120) فقد أباح الشارع الملكية إباحة عامة, في كل سبب أباح التملك به, يقول سبحانه: (أحل لكم صيد البحر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحاط حائطاً على شيء فهو له)، فهذه الآية وهذا الحديث, هما من قبيل إباحة الملكية, وتدل أيضا على عموم الإباحة لكل فرد من أفراد الرعية, والمسلم والذمي سواء, وتدل على تمكينه من حيازة الملكية, ومن السعي لها, والانتفاع بها من مأكل وملبس ومسكن, والتمتع عامة, ويقول سبحانه: (وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً )، وقال تعالى: (قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق)، وقال تعالى: (كلوا من طيبات ما رزقناكم )، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أكل احدٌ طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده).
لقد جاءت هذه الأدلة عامة, وتبين أن الانتفاع بالمال وحيازتِهِ حقٌ لكل فرد من أفراد الرعية مسلما كان أو ذمياً, صغيرا كان أو كبيرا, ذكرا كان أو أنثى.
والآيات والأحاديث المتعلقة بالفقر أيها الإخوة، أي بسوء التوزيع ومعالجته, قد بلغت حد الاستفاضة, والأدلة التي جاءت لإباحة الملكية كذلك بلغت حد الاستفاضة, بإباحة الملكية وإباحة الانتفاع, هذا من جهة, ومن جهة أخرى فإنها قد عالجت أصلا في الاقتصاد وليس فرعا, وعنه تتفرع جميع مشاكل الاقتصاد, أي انه المشكلة الأساسية.
الإخوة الكرام: بالإضافة إلى ما تقدم من أدلة على المشكلة الأساسية في الاقتصاد, فقد جاءت إحكام شرعية تقتضي إيجاد الثروة في البلاد, أي تقتضي علاج الإنتاج فقوله تعالى: (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل)، يقتضي وجود الثروة في البلاد, ويوجب العمل لإيجادها, وتوفير الأمن للرعية, والقيام بمصالحها, وما يلزم لها من شقّ طرقات, وإيجاد المياه, وبناء المدارس والمساجد, وتوفير التطبيب والتعليم, ومعالجة الحوادث الطارئة كالزلازل والطوفان, والنهوض بأعباء الرعية, وهذا كله لا يتأتي إلا بوجود الثروة والعمل لإيجادها,وكذلك فقر الأفراد الذي هو المشكلة الأساسية, لا يتأتى إلا بوجود الثروة فهو يحتم العمل لها.
فهذه الأحكام تعالج ما يقتضي الإنتاج, وتدلُّ على وجوب الإنتاج, من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وأما الأحكام الصريحة التي جاءت في الحث على إيجاد الثروة, فإنها وان كانت موجودة, ولكنها محدودة معدودة, فقد قال تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)، وقال تعالى: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصوم ولا الصلاة, قيل فما يكفرها يا رسول الله, قال: الهموم في طلب الرزق): وقال صلى الله عليه وسلم: (من طلب الدنيا حلالا طيبا لقي الله تعالى ووجهه كالقمر في ليلة البدر)، فهذه أدلة مباشرة في الحث على طلب الرزق, أي في الحثّ على الإنتاج, أو بتعبير أخر على معالجة فقر البلاد.
هذا كله بالنسبة للأدلة الشرعية, أما بالنسبة لواقع الحياة الاقتصادية, فإن الذي لا يختلف عليه اثنان, أن كل بلد تعاني من اضطرابات اقتصادية من جراء سوء التوزيع, وليس من جراء الإنتاج, فالنظام الاشتراكي البائد, ما ظهر في ذلك الوقت, إلا نتيجة ظلم النظام الرأسمالي, أي نتيجة سوء التوزيع, وما نراه من أزمات مالية واقتصادية واجتماعية وسياسية, وانهيارات في كثير من المؤسسات الاقتصادية العملاقة, في أمريكا وأوروبا وغيرها من الدول التي تطبق المبدأ الرأسمالي إلا من جراء هذا المبدأ الأيل للسقوط, لقد جعل هذا المبدأ بعض الناس أغنياء غناءً فاحشاً, وبعض الناس فقراء فقراً مدقعاً, حتى في أمريكا حارسةُ هذا المبدأ,فقد تجمعت الثروة في يدِ خمسة بالمائة من الشعب الأمريكي, وبقية الشعب لا يملك إلا ما يمكنه الحياة.
والى أن نلتقي معكم مع مادة أخرى من مواد النظام الاقتصادي في الإسلام نستودعكم الله.