مع القرآن الكريم- الدعوة إلى الله
هذه الآيات تبين كيفية الدعوة إلى الله، فهي، أولاً وقبل كل شيء، دعوة إلى الله، وليست دعوة إلى شخص أو إلى قوم أو إلى حزب، فحامل الدعوة يقوم بواجب فرضه الله عليه، فليس له على الدعوة، ولا على من يهتدون على يديه، من فضل، وإنما أجره على الله. ولهذا لايحزنه عدم استجابة الناس له، ولا يضيق صدره بمكرهم به وبدعوته، فالهدى والضلال من الله، { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } ، { ولا تحزن عليهم ولا تك في ضَيْق مما يمكرون } ، والعاقبة للتقوى: { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } .
والدعوة اثنتان: دعوة غير المسلمين إلى اعتناق الإسلام، وهذه يتولاها الأفراد في كل حال، وتتولاها الدولة بالطريق العملي، وهي حكم غير المسلمين بأحكام الإسلام، ليرَوْا نور الإسلام وسماحته، فيدخلوا في دين الله أفواجاً؛ ودعوة المسلمين إلى العمل بالإسلام والعمل له. وفي حالة غياب السلطة التي تطبق أحكام الإسلام، فإن العمل للإسلام يجب أن يستهدف تزاوج السلطان والقرآن، أي أن يصبح للقرآن الكريم سلطان ينفذ أحكامه على الناس، أي يصبح للسلطان مرجعية واحدة: هي الإسلام وهذا يقتضي أن يكون العمل جماعياً أي من خلال كتلة. وكلتا الدعوتين من أحكام الطريقة، التي يجب أن يقام بها من أجل تحقيق نتائج محسوسة، ولا يقام بها من باب إسقاط الواجب، ولا من باب «معذرة إلى ربكم»، وإنما يجب أن يتقصد تحقيق إنجاز محسوس، كأن يتحقق اعتناق الإسلام فعلاً من شخص أو آخرين، أو تغيير مفاهيم محددة عند شخص أو أشخاص معروفين، أو في حالة الجهاد في سبيل الله، أن يحصل افتتاح حصن، أو قتل عدو، أو السيطرة على مساحة من أرض العدو. وهذا القصد من أعمال الطريقة يجب أن يبقى ماثلاً في الذهن عند القيام بأي عمل.
وطرق حمل الدعوة ثلاث: إحداها: الدعوة بالحكمة، أي بالبرهان العقلي، والحجة الدامغة والقول المقنع، بوضع الفكر الصحيح بمواجهة الفكر الخطأ، فيدرك أصحاب الرأي والفكر فساد الفكر الخطأ حين يقابلونه مع الفكر الصحيح، ولهذا كانت هذه الطريقة منتجة مع المفكرين، ولذلك يخشاها الكفرة والملحدون، كما يخشاها الضالون المضلون، لأنها تكشف زيف الباطل وتضيء وجه الحق، وهي بذلك تكون ناراً تحرق الفساد ونوراً يهدي إلى الصلاح، وقد جاء القرآن بالبراهين القاطعة، والحجج الدامغة، وخاطب العقول، لكي تتدبر في ملكوت السماوات والأرض وتصل من هذا التدبر إلى أن لهذا الكون خالقاً خلقه. قال تعالى :{ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت } وقال تعالى: { وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلّت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } وليس من الحكمة الملاينة والمسايرة، ولا التأني والتؤدة، ولا الاعتدال والديبلوماسية، ولم ترد هذه أو إحداها من معاني الحكمة، فالحكمة إما وضع الأمور في موضعها، أو الحجة والبرهان، وفي الآية لا محل لتفسيرها بوضع الأمور في موضعها، فيتعين أن يكون معناها الحجة والبرهان.
والرسول صلى الله عليه وسلم في حمله دعوة الإسلام، لم يساير أهل مكة، ولم يجاملهم، ولم يداهنهم، وإنما كان يتلو عليهم قول الله تعالى: { إنكم وما تعبدون من دون اللـه حصـب جهنم أنتم لها واردون }، وقوله تعالى: { تبت يدا أبي لهب وتبّ }، وقوله تعالى: { ولا تطع كل حلاّف مهين * همّازٍ مشّاءٍ بنميم * منّاع للخير معتدٍ أثيم * عُتُلٍّ بعد ذلك زنيم }.
وثانيتها: الموعظة الحسنة، وهي التذكير الجميل. أي إثارة المشاعر حين مخاطبة العقول، وإثارة الأفكار حين مخاطبة المشاعر، وبذلك تدخل الدعوة إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، فإن الرفق في الموعظة كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلّف القلوب النافرة. قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم : {فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} ، وقال جلّ وعلا مخاطباً موسى وهارون عليهما السلام: { إذهبا إلى فرعون إنه طغى *فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى }، وهناك الكثير من آيات الذكر الحكيم تخاطب المشاعر، من أجل إحداث هزة في النفوس، من أجل إعادة النظر في المواقف، ومن أجل شحذ الهمم للعمل بما اقتنع به العقل. قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون }.
وثالثتها: { وجادلهم بالتي هي أحسن } أي بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة، وهو النقاش الذي يُحصر بالفكرة موضع النقاش، ولا يتعداها إلى ما سواها من قضايا شخصية، أو جانبية، ويأخذ دور المعارضة والمناقضة، بإعطاء الحجج الصادقة، ونقض الحجج الباطلة، مع تحري الوصول إلى الحق. يقول تعالى : { لو كان فيهما آلهةٌ إلا اللهُ لفسدتا فسبحان الله ربِّ العرش عما يصفون } ويقول جلّت حكمته: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً }.
ويجب دائماً تحديد القصد من حمل الدعوة إلى شخص معين، وتحديد السقف الذي يمكن أن تصل معه إن استجاب، فشخص تجادله طمعاً في أخذه إلى جانب فكرتك، حاملاً لها، وداعياً الآخرين إليها، وآخر تطمع في تغيير مفهوم عنده، وثالث تطمع في تحميله مفهوماً معيناً ليحمله في أوساطه ومجالسه، ورابع تأمل أن يأزرك ويعينك. لأن عدم تحديد سقف ما تنتظره من المخاطَب قد يؤدي بحامل الدعوة إلى اليأس أو إلى الملل. وهما ظاهرتان غير صحيتين. وليس من مقاصد حمل الدعوة إظهار التفوق في النقاش، ولا الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق. فالنفس البشرية لها خصائصها ومساربها. وليس من السهل عليها أن تعترف بالهزيمة، أو أن تتنازل عن الرأي الذي تدافع عنه، ولهذا يجب أن يُشعر المخاطَب أن ذاته مصونة، وقيمته محترمة، فلا يُتحامل عليه، ولا يُستعلى عليه، ولا يُجهّل، ولا يُقبَّح ولا يُرذّل. لأن القصد من النقاش هو كسبه لا كسب عداوته، ويجب أن يتجلى الحرص عليه في أساليب النقاش، بحيث لا يحس بمسافة بينك وبينه، ولا أنه غيرُك، كما يجب مراعاة أوضاعه النفسية حين حمل الدعوة إليه، فتُتخير الأوقات المناسبة، والألفاظ المناسبة، وكما يقال: «لكل مقام مقال»، وإذا لم يَفتح المخاطَب قلبه، فلن ينفتح عقله، فالطريق إلى العقول يمر عبر القلوب، ولهذا يجب تأليف القلوب قبل مخاطبة العقول. فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين اتصل بجماعة من بني عبد الله خاطبهم بقوله صلى الله عليه وسلم : «إن الله قد أحسن اسم أبيكم» فليس اسم أبيهم عبد اللات ولا عبد العزى، وذلك تأليفاً لقلوبهم لكي يُقبلوا على الاستماع إليه، والاستجابة له.
وفي جميع الحالات يجب قول الحق، والصبر على الأذى، صبر المؤمنين العاملين، وليس صبر الخانعين المستسلمين. روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم»