قراءة في كتاب النظام الإقتصادي في الإسلام ح1 – الأستاذ أبي عبد الله التحريري
أيها الإخوة الكرام:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته … وبعد،،
هذا أخوكم أبو عبدالله التحريري يلتقيكم مع كتاب جديد ضمن برنامجنا “قراءة في كتاب”، وكتاب هذه القراءة هو: “النظام الإقتصادي في الإسلام”.
وكتاب “النظام الإقتصادي في الإسلام” من تأليف الشيخ الفاضل، تقي الدين النبهاني، عليه رحمة الله تعالى ورضوانه. وبالطبع فإن الكتاب هذا من منشورات حزب التحرير، وللكتاب عدة طبعات، آخرها هي الطبعة السادسة، والتي صدرت في العام الخامس والعشرين واربع مائة وألف هجرية، الموافق للعام الرابع بعد الألفين ميلادية، وهذه الطبعة الأخيرة هي التي بين أيدينا، ونقلب صفحاتها في هذه القراءة. وهذه الطبعة لا تختلف عن سابقاتها إلا اختلافا قليلا يكاد لا يذكر، حيث أن الإختلاف يكون بوضع حديث موضعه إذا تبين ضعفه، أو تعديل في جملة هنا وأخرى هناك توخيا للدقة في العبارة، وزيادة في وضوحها حسب ما يتبين لحزب التحرير من الصواب، وهذا ديدن هذا الحزب العظيم في توخي الصحة في كل أمر سعيا وراء الحق والحقيقة. قال كاتب المقدمة القصيرة لهذا الكتاب، وهو من القائمين على طبعه:”وقد روجع الكتاب قبل إعادة طبعه هذه الطبعة المعتمدة، ونقح، وأجريت عليه بعض التصحيحات القليلة، وقد بذلت عناية فائقة في مراجعة جميع الأحاديث الواردة فيه، وقد ثُبتت حسب روايتها في كتب الحديث.” انتهى
والكتاب، أيها المستمعون الكرام، مكون من ثلاث مائة وثماني عشرة صفحة من القطع المتوسط، يغطي اثنين وثلاثين عنوانا عدى عن تفريعاتها.
أول عنوان من عناوين هذا الكتاب هو:”مقدمة في النظام الإقتصادي”، وقد بدأ المؤلف هذه المقدمة بكلمات جديرة أن تكتب بماء الذهب، فقال:”إن الأفكار في أي أمة من الأمم هي أعظم ثروة تنالها الأمة في حياتها إن كانت أمة ناشئة، وأعظم هبة يتسلمها الجيل من سلفه إذا كانت الأمة عريقة في الفكر المستنير.
أما الثروة المادية، والإكتشافات العلمية، والمخترعات الصناعية، وما شاكل ذلك، فإن مكانها دون الأفكار بكثير، بل إنه يتوقف الوصول إليها على الأفكار، ويتوقف الإحتفاظ بها على الأفكار.” انتهى كلام المؤلف. ومن هذه الكلمات الرائعات انتقل بنا ليفرق بين النظام الإقتصادي وعلم الإقتصاد، وهو تفريق دقيق، يبين مدى دقة الفهم للواقع وللحكم الشرعي، حيث أن النظام الإقتصادي مبني على وجهة نظر في الحياة، أي على عقيدة معينة، بينما علم الإقتصاد متعلق بزيادة الإنتاح وتقنياته، وهذا العلم عالمي، أي ليس مبنيا على عقيدة ما، وعليه فإن النظام الإقتصادي لا يؤخذ من أي ملة إلا ملة الإسلام، أما علم الإقتصاد فالأخذ منه مفتوح ما دام لا يخالف أي حكم شرعي .
وبعد هذا التفريق بدأ المؤلف، رحمه الله، بعرض النظم الإقتصادية لمبدأ الرأسمالية ولمبدأ الشيوعية، ويفند الرأسمالية والإشتراكية. قال المؤلف – رحمه الله-:” وإذا استعرضنا النظام الإقتصادي في المبدأ الرأسمالي نجد أن الإقتصاد عندهم هو الذي يبحث في حاجات الإنسان ووسائل إشباعها، ولا يبحث إلا في الناحية المادية من حياة الإنسان. وهو يقوم على ثلاثة أسس:
أحدها – مشكلة الندرة النسبية للسلع والخدمات بالنسبة للحاجات، أي عدم كفاية السلع والخدمات للحاجات المتجددة والمتعددة للإنسان. وهذه هي المشكلة الإقتصادية التي تواجه المجتمع لديهم.
ثانيها – قيمة الشئ المنتج، وهي أساس الأبحاث الإقتصادية وأكثرها دراسة.
ثالثها – الثمن، والدور الذي يقوم به في الإنتاج والإستهلاك والتوزيع، وهو حجر الزاوية في النظام الإقتصادي الرأسمالي.” أنتهى كلام الشيخ تقي الدين، عليه رحمة الله.
وبعد هذا العرض، وبعد شرح مستوف لأسس النظام الإقتصادي الرأسمالي بدأ المؤلف بالرد على هذه الأسس، فبين أن أول أمر هو خلط الإقتصادييون الرأسماليون بين النظام الإقتصادي وعلم الإقتصاد، قال المؤلف:” فهذا الإندماج بين الحاجات والوسائل في البحث، أي بين إيجاد المادة الإقتصادية، وكيفية توزيعها وجعلهما شيئاً واحداً وبحثاً واحداً، خطأ نتج عنه هذا الخلط والتداخل في أبحاث الإقتصاد عند الرأسماليين. ولذلك كان أساس تكوين الإقتصاد في المبدأ الرأسمالي أساسا خاطئا.” انتهى.
وبهذا – أيها المستمعون الأفاضل – نقض المؤلف أساس تكوين النظرة الإقتصادية عند الرأسماليين. وبعدها تطرق إلى زعم الرأسماليين أن الحاجات التي تتطلب الإشباع لا تكون إلا مادية بحتة ونظرتهم إلى هذه الحاجات، حيث يرى الرأسماليون أن الحاجات هي كل ما يتطلب إشباعا بغض النظر عن ماهيته، ولكونه مطلوبا فهو مادة إقتصادية، فالخمر مادة إقتصادية، والبغاء مادة إقتصادية، كما هو الخبز والقماش مادة إقتصادية. يقول المؤلف أن هناك حاجات أخرى ليست مادية بحتة تتطلب إشباعا مثل الحاجات الروحية والحاجات المعنوية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى قال المؤلف أن الرأسماليين نظروا إلى المنافع والحاجات كما هي بدون النظر إلى ما يجب أن يكون عليه المجتمع، وجعلوا الإنسان ماديا بحتا، ومجردا من الميول الروحية، والأفكار الأخلاقية، والغايات المعنوية، يقول المؤلف:” … وهذا يكون هم الإقتصادي النظرة إلى المنفعة باعتبارها تشبع حاجة مادية فحسب.
فهذا الإنسان الذي ينظر هذه النظرة إلى الإنسان من خلال نظرته إلى المنفعة، ويقيم الحياة الإقتصادية على أساس هذه النظرة يُعتبر من أخطر الأشخاص على المجتمعات والناس. ” ثم يقول المؤلف:”… ولذلك لا يصح أن نعتبر الأشياء نافعة لمجرد وجود من يرغب فيها، سواء أكانت في حقيقتها مضرة أم لا، وسواء أكانت تؤثر في علاقات الناس أم لا، وسواء أكانت محرمة في إعتقاد الناس في المجتمع أم كانت محللة، بل يجب اعتبار الأشياء نافعة إذا كانت حقيقة نافعة، أي يجب أن ينظر إلى الأشياء باعتبار ما يجب أن يكون عليه المجتمع ولا يجوز الإقتصار على النظرة إلى الشيئ كما هو فحسب، وغض النظر عما يجب أن يكون عليه المجتمع.”
وينتقل بنا الشيخ تقي الدين النبهاني إلى نقطة أخرى في نقضه للنظام الإقتصادي الرأسمالي، وهي نظرتهم إلى المشكلة الإقتصادية، فهم يرون أن رفع مستوى الإنتاج وزيادة الدخل الأهلي للبلاد هو ما يجب توفره لإشباع الحاجات وعلى الأفراد العمل لإشباع جوعاتهم، وهذه النظرة خطأ محض، حيث يقول المؤلف: “ووجه الخطأ في هذا هو أن الحاجات التي تتطلب الإشباع هي حاجات فردية مع أنها حاجات إنسان، فهي حاجات لمحمد، وصالح، وحسن، وليست حاجات لمجموعة الإنسان، أو لمجموعة أمة أو لمجموعة شعب. والذي يسعى لإشباع حاجاته هو الفرد، سواء أكان إشباعه لها مباشرة كالأكل، أم إشباعه لها عن طريق إشباع المجموع، كالدفاع عن الأمة. ولذلك كانت المشكلة الإقتصادية متركزة على أساس توزيع وسائل الإشباع على الأفراد، أي توزيع الأموال والمنافع على أفراد الأمة أو الشعب، وليس على الحاجات التي تتطلبها مجموعة الأمة أو الشعب، دون النظر إلى كل فرد من أفراده. وبعبارة أخرى المشكلة هي الحرمان الذي يصيب الفرد، لا الحرمان الذي يصيب مجموع البلاد. والبحث في النظام الإقتصادي إنما يكون في إشباع الحاجات الأساسية لكل فرد، لا البحث في إنتاج المادة الإقتصادية.”
وبعد ذلك بدأ المؤلف – رحمه الله تعالى – بنقض أساس النظام الرأسمالي، وهو المشكلة الإقتصادية، حيث يدعي الرأسماليون أن المشكلة الإقتصادية هي عدم كفاية السلع والخدمات لإشباع جميع حاجات الإنسان إشباعا كليا، وهذا مناقض للواقع، حيث أن الواقع يملي علينا أن الحاجات التي تتطلب الإشباع هي الحاجات الرئيسية، وليس الكمالية، وما هو متوفر من سلع وخدمات كاف لإشباع هذه الحاجات الأساسية، ويكون إشباعها بتوزيعها التوزيع الذي يكفل لكل فرد أن تشبع جوعاتة الأساسية، وإذا أمكن أن يشبع أكبر قدر من حاجاته الكمالية. قال المؤلف:” وعلى هذا فالقواعد الإقتصادية التي توضع هي القواعد التي تضمن توزيع ثروة البلاد الداخلية والخارجية على جميع أفراد الأمة فردا فردا، بحيث يضمن إشباع جميع الحاجات الأساسية، لجميع الأفراد فردا فردا، إشباعا كليا، وتمكين كل فرد منهم من إشباع حاجاته الكمالية.” إنتهى كلام المؤلف.
وفي معرض رد الشيخ الجليل على الرأسماليين بخصوص القيمة، قال أن قيمة السلعة أو الخدمة عندهم هي أمر نسبي وليس حقيقي لأنها كما يصورونها امر إعتباري، بينما هذه القيمة في حقيقة أمرها أمر حقيقي مشخص، فالقيمة للسلعة أو الخدمة هو مقدار ما فيها من منفعة مع مراعاة عامل الندرة حين التقييم.
أما الثمن عند الرأسماليين، فهو النقد الذي تستبدل به السلع والخدمات، وهو عندهم المنظم الوحيد لتوزيع الثروة على أفراد المجتمع، وعلى أساس الثمن يكون نصيب كل فرد من أفراد المجتمع من ثروة البلاد ليس على قدر حاجاته الأساسية، وإنما على قدر قيمة ما قدم من خدمات لإنتاج السلع والخدمات. يقول المؤلف ردا على ذا القول:”وبهذه القاعدة، وهي جعل الثمن هو المنظم للتوزيع، يكون النظام الإقتصادي الرأسمالي قد قرر أنه لا يستحق الحياة إلا من كان قادرا على المساهمة في إنتاج السلع والخدمات. أما من كان عاجزا عن ذلك لأنه خلق ضعيفا، أو لأن هناك ضعفا طرأ عليه فلا يستحق الحياة، لأنه لا يستحق أن ينال من ثروة البلاد ما يسد حاجاته. وكذلك يستحق التخمة والسيادة والسيطرة على الغير بماله كل من كان قادرا على ذلك، لأنه خلق قويا في جسمه أو في عقله، وكان قادرا على الحيازة بأي طريق من الطرق.” انتهى.
وبالطبع هذا يعني إبعاد أي قيمة روحية أو خُلقية من حياة الناس، ولا يبقى سوى القيمة المادية النفعية. وهذا يذكرنا بمقولة مشهورة لآدم سميث، وهو أشهر من وضع أسس النظام الإقتصادي الرأسمالي، وهذه المقولة هي: (NO FREE LUNCH) أي لا يوجد غداء بالمجان. وهذه العبارة الخطرة واللا إنسانية تعني أنه إن لم يعمل الشخص ويساهم في إنتاج السلع والخدمات، فإنه لا يستحق أن يأكل.
وبهذا يكون المؤلف الشيخ/ تقي الدين النبهاني -عليه رحمة الله تعالى- قد أنهى موضوع النظام الإقتصادي الرأسمالي، ونحن إنما أوردنا أجزاء مما ذكره الشيخ، ونترك للمستمعين الكرام أن يقرأوا هذا الكتاب القيم بأنفسهم ولأنفسهم، عسى أن ينفعهم الله به وأن ينفعوا به.
وبعد الإنتهاء من النظام الإقتصادي الرأسمالي، إنتقل الشيخ إلى النظام الإقتصادي الإشتراكي شرحا ونقضا. وقد أوضح رأي اشتراكية رأس المال، وإشتراكية الدولة، وإشتراكية كارل ماركس والتي تدعى بالإشتراكية العلمية، وكذلك أوضح رأي الإشتراكية الزراعية في الأمور الثلاثة التي دار حولها بحث الإقتصاد الإشتراكي، وهي:
أولا: “تحقيق نوع من المساواة الفعلية”.
ثانيا: “إلغاء الملكية الخاصة إلغاءً كليا “.
ثالثا: “تنظيم الإنتاج والتوزيع بواسطة المجموع”.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:”هذه خلاصة الإشتراكية، والشيوعية نوع من أنواعها.
ومن هذ الخلاصة، يتبين أن المذاهب الإشتراكية كلها بما فيها الشيوعية تعمل لتحقيق المساواة الفعلية بين الأفراد، إما المساواة بالمنافع، أو المساواة في وسائل الإنتاج، أو المساواة المطلقة. وكل واحد من أنواع هذه المساواة مستحيل الوقوع وهو فرض خيالي. وذلك أن المساواة من حيث هي غير واقعية فهي غير عملية. أما كونها غير واقعية فإن الناس بطبيعة فطرتهم التي خُلِقوا عليها متفاوتون في القوى الجسمية والعقلية، ومتفاوتون في إشباع الحاجات. فالمساواة بينهم لا يمكن ان تحصل. إذ لو ساويت بينهم في حيازة السلع والخدمات جبرا بالقوة تحت سلطة الحديد والنار فإنه لا يمكن أن يتساووا في استعمال هذا المال في الإنتاج، ولا في الإنتفاع به، ولا يمكن أن تساوي بينهم بمقدار ما يشبع حاجاتهم، فالمساواة بينهم نظري خيالي.” انتهى.
ولما جاء المؤلف على النقطة الثانية المتعلقة بإلغاء الملكية، قال:”وأما إلغاء الملكية الخاصة أو الحيازة مظهر من مظاهر غريزة البقاء، وهي حتمية الوجود في الإنسان. لأنها فطرية فيه، فهي جزء من تكوينه، ومظهر من مظاهر طاقته الطبيعية، فلا يمكن إلغاؤها، لأنها غريزية. وكل ما هو غريزي لا يمكن قلعه من الإنسان، ما دامت تنبض فيه الحياة. واية محاولة لإلغائها إنما هي كبت للإنسان، يؤدي إلى القلق. ولذلك كان الأمر الطبيعي أن يجري تنظيم هذه الغريزة. لا إلغاؤها.” إنتهى كلام المؤلف.
أما بالنسبة للنقطة الثانية الخاصة بتنظيم الإنتاج والتوزيع بواسطة المجموع، فإنها تدور حول كيفية القضاء على الرأسمالية. واختلفت المدارس الإشتراكية حول الطريقة أو الكيفية هذه، وكان أشهر هذه المدارس مدرسة كارل ماركس ذات النظرية الديالكتيكية، والتي مدارُها على تطور طبيعي، حسب زعمه، وتقوم في مؤداها على إحداث ثورة الطبقة العاملة، والتي يطلقون عليها البلوريتاريا، على طبقة أصحاب رؤوس الأموال بعد إحداث الكثير من النزاعات والإضرابات. وفي هذا الخصوص قال المؤلف رحمه الله تعالى:”وأما تنظيم الإنتاج والتوزيع بواسطة المجموع، فإنه لا يتأتى بإثارة القلق والإضطراب بين الناس، وإثارة الحقد والبغضاء فيهم بعضهم على بعض، فإن ذلك يعني إيجاد الفوضى، وليس إيجاد التنظيم. ولا يأتى طبيعيا في ترك العمال يحسون بظلم أصحاب الأعمال، لأنه قد يكون أصحاب الأعمال من المهارة بحيث يشبعون جميع حاجات العمال – كما هي الحال في عمال المصانع في الولايات المتحدة – فلا يحسون بالظلم الواقع عليهم في هضم ثمرات جهودهم ولا يتأتى حينئذ التطور الذي ينظم الإنتاج والإستهلاك. ولذلك لا بد من أن يأتي هذا التنظيم بأحكام ومعالجات صحيحة، قطعية الأساس، منطبقة على واقع المشكلة. والإشتراكية تعتمد في تنظيم الإنتاج والتوزيع إما على إثارة القلق والاضطرابات بين العمال، وإما على سنة التطور في المجتمع، وإما على تشريعات وقوانين وضعية غير مستندة إلى أساس قطعي. ولذلك كان تنظيمها خاطئا من أساسه.” انتهى
وركز المؤلف على أراء كارل ماركس لأنها ذاعت، وقامت على أساسها دولة بعد ثورة، وأول هذه الآراء هي رأي كارل ماركس في القيمة، حيث عرفها أنها العمل المبذول في إنتاج السلعة. وهذا التعريف مخالف للواقع تماما، حيث أن العمل هو جزء من قيمة السلعة، ويدخل في القيمة المادة الخام والتي قد تكون أكبر قيمةً من العمل ذاته، مثل الذهب والبلاتين، وهناك أمور أخرى تدخل في القيمة، مما يجعل رأي كارل ماركس متهاويا.
أما الرأي الآخر لماركس، فهو قوله “أن النظام الإجتماعي الذي يقوم في عصر ما هو نتيجة الحالة الاقتصادية، وأن التقلبات المختلفة التي تصيب هذا النظام إنما ترجع كلها إلى سبب واحد، هو كفاح الطبقات الاجتماعية من أجل تحسين حالتها المادية.” ويرد المؤلف على هذا الرأي بأن الإشتراكية حلت في روسيا القيصرية نتيجة لثورة دموية وليس نتيجة لصراع طبقات، وكذلك الأمر بالنسبة لسيطرة الإشتراكية على الصين، بينما وحسب نظرية ماركس كان ينبغي أن يكون التغيير في ألمانيا الغربية وانجلترا والولايات المتحدة.
وبالنسبة للنقطة الثالثة، فيقول المؤلف:”أما الجهة الثالثة التي يتبين فيها خطأ نظريات كارل ماركس فذلك ما يقول به من قانون التطور الاجتماعي، وأن نظام الحياة الإقتصادية مقضي عليه بالزوال بفعل القوانين الاقتصادية التي يخضع لها، وأن الطبقة المتوسطة، التي انتصرت على طبقة الأشراف، وكانت هي مالكة رؤوس الأموال، قد حان الوقت الذي تتخلى فيه عن مكانها لطبقة العمال، ويحتم عليها ذلك قانون التركز.” انتهى كلام المؤلف. أما قانون التركز الذي يقول به كارل ماركس فخلاصته هي: أن حركة في رأس المال والعمال تحدث بحيث تكبر مشروعات على حساب أخرى فيتركز فيها رأس المال بين أيدي قلة ويزداد عدد العمال، مما ينتج عنه تركز الإنتاج.وهذا القول لماركس، يقول فيه المؤلف أنه “نظرية فاسدة” لأن أي إنتاج يصل إلى حد ولا يتجاوزه، وبالتالي لا يصلح لنظرية ماركس. ومن ناحية أخرى لا يوجد تركز في قطاع الزراعة وهو أحد أهم نواحي الإنتاج. وكذلك “… هذا خطأ لأن تركز الإنتاج قد ينشا عنه كثرة في عدد أصحاب رؤوس الأموال، وقد ينشأ عنه أن يصبح العمال أصحاب رؤوس الأموال. ففي شركات المساهمة وهي الشكل الذي تتخذه عادة المشروعات الكبرى كثيرا ما يكون مساهموها أكثرهم من العمال، فكيف يحصل تركز إنتاج”.
وبهذا يكون المؤلف قد نقض النظام الإقتصادي الرأسمالي والإشتراكي ومنه الشيوعي، ثم بين للقارئ مخالفة هذين النظامين لنظام الإسلام، من وجهين:
أولهما: أن طريقة الإسلام في حل المشاكل أساسها فهم واقع المشكلة، ودراسة النصوص التشريعية في الإسلام واستنباط الحل منها للمشكلة بعد التأكد من انطباقها على واقع المشكلة. بينما يقوم النظام الرأسمالي بأخذ الحل من المشكلة بسبب بنيانه كمبدأ على الحل الوسط، أما الإشتراكية، فإنها تأخذ حلولها من فرضيات نظرية بعيدة عن الواقع تخيل الإشتراكيون وجودها في المشكلة، وعلى هذا الأساس يضعون الحلول، وهذا ليس غريبا على من جعل المادة أساسا لتفكيره، لأنه تخيل وفرض أن المادة هي أساس التفكير .
ثانيهما: أن الإسلام مبني على عقيدة عقلية واضحة، وأحكام الإسلام مبنية ومنبثقة عن هذه العقيدة، إنها أحكام شرعية، بينما النظام الإقتصادي الرأسمالي والنظام الإقتصادي الإشتراكي لا علاقة لهما بالعقيدة الإسلامية ولا بالأحكام الشرعية من قريب أو بعيد. وعليه فالأخذ بها من غير اعتقاد فسق، والأخذ بها باعتقاد صحتها، والشك في صحة أحكام الإسلام، أو أن أحكام الإسلام لا تناسب العصر، فهذا كفر صراح، نسأل الله لنا ولأمة محمد العفو والعافية.
وبهذا يكون المؤلف، الشيخ تقي الدين النبهاني، نسأل الله أن يرحمه، قد أنهى هذه المقدمة في الإقتصاد، وهي مقدمة رائعة وإن كانت موجزة، بالرغم من تعديها الخمسين صفحة، لينتقل بنا إلى الإقتصاد وموضوعات أخرى سنتطرق إليها، بإذن الله تعالى، في لقاءاتنا القادمة معكم.
وإلى أن نلقاكم لنكمل قراءتنا لكتاب “النظام الإقتصادي في الإسلام”، هذا أخوكم أبو عبدالله التحريري يستودعكم الله تعالى الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته