البيعة لخليفة المسلمين ح8 – الأستاذ أبو إبراهيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف المرسلين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعه وسار على دربه, واهتدى بهديه, واستن بسنته, ودعا بدعوته واقتفى أثره إلى يوم الدين, واجعلنا معهم واحشرنا في زمرتهم, برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا سهل إلا َّ ما جعلته سهلا , وأنت إذا شئت جعلت الحزن سهلا . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
ربِّ اشرح لي صدري, ويسِّر لي أمري, واحلل عقدة من لساني, يفقهوا قولي.
أحبتنا الكرام: مستمعي إذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير, أحييكم بتحية الإسلام, فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد:
إخوة الإيمان: في هذه الحلقة سنتحدث عن مبايعة علي بن أبي طالب كرم الله وجهَهُ بالخلافة.
حمل علي بن أبي طالب ـ كرَّم الله وجهه ـ تبعة الحكم, ومسؤولية الخلافة في ظروفٍ حالكة, فلقد قصده الثوَّار إثر فراغهم من اقتراف جريمتهم النكراء… قصدوه وأيديهم لم يجف عنها دم الخليفة الشهيد, الذي اغتالوه في بشاعةٍ مفزعة.
ورفض عليٌّ ـ كرَّم الله وجهه ـ بعد أن ألقى عليهم من تقريعه ووعيده ما جعلهم ـ وهم في بأسهم المتّقد ـ يتصاغرون ويتخاذلون, وينصرفون عنه في خزيٍ وهوان!
ذهبوا إلى طلحة فرفض, وإلى الزبير فرفض, وإلى عبد الله ابن عمر فرفض, وإلى سعد بن أبي وقَّاص فرفض, ومن ذا الذي يقبلها, وقد رفضها عليّ كرم الله وجهه.
ولكن لابدَّ للدولة من حاكم (خليفة) وكل دقيقة تمر والمكان شاغر, تشكل خطرا ً قد يودي بمصير الأمةِ كلها, والإسلام كلهِ, ولقد أدرك ذلك سريعا ً جميع الناس بالمدينة, أهلها والثوار الطارئون عليها, الساخطون على مقتل عثمان, والمشتركون فيه, كلهم أدركوا الخطر الماحق المزلزل, الذي سيحلُّ بالأمة في أقطارها القريبة والنائية, إذا لم يُمْسِكْ بزمام الأمور على الفور رجلٌ مقتدر, يستطيع أن يوقف جموح الفتنة, ويرأب ذلك الصدعَ العريض.
تقدَّم الراشدون من أهل المدينة يبايعون عليّاً بالخلافة, وبهذه البيعة صار عليٌ خليفة ً للمسلمين, ولقد حرص عليٌ على أخذ البيعة من أهل الكوفة التي نقل إليها عاصمة الخلافة.
وكتب إلى معاوية يدعوه إلى لزوم بيعته, وهذا نص الكتاب: (سلامٌ عليك أما بعد: فإن بيعتي بالمدينة, لزمتك وأنت بالشام؛ لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكرٍ وعثمان على ما بويعوا عليه, فلم يكن للشاهد أن يختار, ولا للغائب أن يرد, وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار, فإذا اجتمعوا على رجل ٍ وسمَّوه إماما ً كان ذلك لله رضا، فإن خرج من أمرهم خارج ٌبطعن ٍ, أو رغبةٍ, ردُّوه إلى ما خرج منه, فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين, وَوَلاهُ اللهُ مَا تولـَّى, وأصلاه جهنم وساءت مصيرا ً ).
لم يكن بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحياء يومئذٍ من يفوق عليا ً في قدراته الهائلة التي تجعله جديرا ً بمكانته في الخلافة, ولم تكن الخلافة عندما فرضت عليه تشكل أي مغنم من مغانم الحياة, بل كانت تشكل عبئا ً، لحامله الويل كل الويل إذا لم يعنه الله.
وكان الواجب الكبير الذي ينتظر كل مؤمن وكل مسلم يومئذٍ بذل العون المستطاع لوقف امتداد الفتنة وذلك بالوقوف في ولاءٍ وصدق ٍ وإيثار ٍ وراء المُنقذ الذي يحمل مسؤولية الموقف كله. وليدرأ عن الإسلام ودولته وأمته أخطاراً لو قـُـدِّر لها أن تبلغ مداها, لأتت على البناء كله من قواعده…لكن ذلك لم يكن, بل كان نقيضه تماما ً.
إن رجولة الإمام علي وبطولته, وعظمة مبادئه, وسلوكه تتجلى الآن في أبهى صُوَرها, وقد صار خليفة وسط الأهوال.
هذا هو عليُّ بن أبي طالب الذي أشرب قلبُه جمال القرآن وأسراره… هذا الذي كان يشهد نزوله آية ً آية ً, حتى صار جديرا ً بأن يقول ـ وهو صادق ــ: (سلوني, وسلوني, وسلوني عن كتاب الله ما شئتم… فواللهِ ما من آيةٍ من آياته إلا َّ وأنا أعلم أنزلت في ليل ٍ, أم في نهار ٍ )!
هذا هو عليُّ بن أبي طالب الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
»أنا مدينة العلم, وعليٌّ بابها «.
وقال عنه أيضا ً: » لا فتىً إلا َّ عليّ, ولا سيفَ إلا َّ ذو الفقار«.
وقال عنه عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : ( لولا عليّ لهلك عمر).
إخوة الإيمان: وَتـَدُورُ عَجَـلـَة ُ الزَّمَان ِ، للمرة الرابعة, وتنقضي سنوات خلافة الإمام عليّ الذي كانت حياته وقفا ً على قضية كبرى… وهي أن يعيد للإسلام حقيقته, وللمسلمين وحدتهم, وللدولة الإسلامية تماسكها وشِـرعَـتـُها واستقامتها… ولم يترك سلما ً ولا حربا ً يبلغان به غايته النبيلة هذه ألا َّ توسـَّـلَ بها في عدالةٍ وشرف.
إخوة الإيمان: في فجر يوم الجمعة الثامن عشر من رمضان عام أربعين من الهجرة وقع الاعتداء على حياة الإمام, واستشهد البطل والخليفة والإمام مع غروب شمس يوم السبت, التاسع عشر من رمضان وهو يقترب من باب مسجد الكوفة, وقيل: بل وهو يصلي, أو يتهيَّأ للصلاة بعد أن عبر شوارعها, يوقظ أهلها لصلاة الفجر, ويناديهم بصوته الجليل: الصلاة الصلاة أيها الناس الصلاة يرحمكم الله.
اقترب منه في لجة الظلام واحدٌ من الخوارج اسمه: (عبد الرحمن بن ملجم) كان قد تآمر مع اثنين آخرين ليتخلّصوا من الإمام بالعراق, ومن معاوية بالشام, ومن عمرو بن العاص بمصر.
كان الإمام بلا حرس ٍ, فكان اغتياله عملا ً من أيسر الأعمال, ولم تكن الجريمة تتطلب أي جَلــَدٍ أو قوَّةٍ أو بُطولة, كانت تتطلب ـ لا غير ـ ضميرا ً ميِّتا ً وتفكيرا ً ضالا ً , وقلبا ً أعمى, وإرادة ً ممسوخة ً!
فلمَّا وجدت هذه جميعا ً في صورة آدميّ, وسُـلــِّحت بسيفٍ مسموم, وقيل لها: اطعني هذا الهدى, وهذا الجلال… تمَّ كلُ شـَيءٍ في لحظات.
وحققت الأقدار للبطل أمنيته الأخيرة فقبل استشهاده بأيام نادى أهل الكوفة من كتابٍ كتبه, ووقف أحد أصحابه يتلوه عليهم بعد صلاة الجمعة:
(…أما والله لوددت أن الله أخرجني من بين أظهركم وقبضني إلى رحمته من بينكم… ولودت أني لم أركم, ولم أعرفكم… فقد والله ملأتم صدري غيظا ً… وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان والخذلان… حتى قالت قريشُ: إن ابن أبي طالب رجلٌ شجاع ٌ, ولكن لا علم له بالحرب… لله أبوهم!! هل كان فيهم رجلٌ أشدَّ لها مراسا ً, وأطول مقاساة ً مني؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين… وهأنذا اليوم قد عدوت الستين… ولكن لا رأي لمن لا يطاع! ).
أجل يا أمير المؤمنين, لا رأي لمن لا يطاع… ولقد سارع القدر إلى رجائك, فأخرجك الله من بين أظهرهم, وقبضك إلى رحمته تقيا ً… نقيا ً… بارا ً…
وهكذا إخوة الإيمان: لقي الإمام ربه ـ أخيرا ً ـ مصابا ً بضربة سيفٍ مسموم, كما لقيه من قبل عمر الفاروق مصابا ً بضربة خنجر ٍ محموم!
وتأبى عظمة البطل إلا َّ أن يكون آخر مشهدٍ في حياته جديرا ً بها أكثر ما تكون الجدارة, ودالا ً على حقيقته أصدق ما تكون الدلالة! فإنه لم يكد يتـلـقــَّى ضربة القدر في رأسه, حتى حُمِل إلى داره, وإذ هو في لحظاتِ الكارثة هذه, يأمر حامليه والحافـِّين حوله أن يذهبوا إلى المسجد؛ ليدركوا صلاة الفجر, قبل أن تؤذِن بفوات… هذه الصلاة التي كان يتهيَّأ لها حين حال الاغتيال الأثيم بينه وبين بلوغها أو إتمامها… وحين فرغوا من صلاتهم, عاد بعض الرجال ممسكين بالقاتل (عبد الرحمن بن ملجم) ويفتح الإمام عينيه, فتقعان عليه, فيهز رأسه في أسىً حين يعرفه ويقول: أهو أنت؟ لطالما أحسنت إليك!
ويلقي البطل العظيم على وجوه بنيه وأصحابه نظرةً, فيراها تتفجر غيظاً, وتضطرم نقمةً, ويحسُّ برد الموت يسري في أوصاله, ويكاد يرى المصير الذي سيحيق بـ (ابن ملجم). يكاد يرى الانتقام المروِّع الذي سيثأر به أولاده وأصحابه, فيتقدَّم هو في إصرار ليحمي قاتله من أيةِ مجاوزةٍ أو تخطٍّ لحدود القصاص المشروع.
قال لبنيه ولأهله: (أحسنوا نزله… وأكرموا مثواه… فإن أعش, فأنا أولى بدمه قِصاصا ً أو عفوا ً… وإن أمت, فألحقوه بي, أخاصمه عند رب العالمين… ولا تقتلوا بي سواه… إن الله لا يحب المعتدين)!
وفي لحظات نهايته زاره وفدٌ من أصحابه وسألوه أن يستخلف عليهم ابنه الحسن من بعده, فأبى وقال:(لا آمركم, ولا أنهاكم, أنتم بأموركم أبصر). وأرادوا أن يحملوه على ما يريدون فقالوا له: وماذا تقول لربِّـك, إن لقِيته دون أن تستخلف علينا؟ فأجابهم: (أقول له: تركتهم دون أن أستخلف عليهم, كما ترك رسولك المسلمين دون أن يستخلف عليهم)! ثم دعى بنيه, وعلى رأسهم الحسن رضي الله عنه وراح يملي عليهم وصيته.
وهكذا أيها الأحبة الكرام ننهي حديثنا عن مبايعة علي بن أبي طالب كرم وجهه إلى نهاية عهد خلافته.
ولكن قبل أن ننهي حديثنا عن البيعة لخليفة المسلمين وإتماما ً للفائدة يجدر بنا أن نذكر الأمور التي أجمع عليها الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين, فيما يخص البيعة:
إخوة الإيمان: من خلال دراستنا التفصيلية للكيفية التي تمت بها مبايعة الخلفاء الراشدين يتبين لنا أن الصحابة قد أجمعوا على الأمور التالية:
أولاً: جواز تأخير دفن الرسول صلى الله عليه وسلم للانشغال بتنصيب خليفة للمسلمين.
ثانياً: لا يجوز أن تخلو أعناق المسلمين من مبايعة خليفة أكثر من ليلتين بثلاثة أيام.
ثالثاً: لا يجوز أن يكون للمسلمين أكثر من خليفة في وقت واحد. وإذا بويع لخليفتين يقتل الآخر منهما.
رابعاً: جواز التنازع على الخلافة, وجواز طلبها والسعي لها, ومقارعة الرأي بالرأي, والحجة بالحجة, في سبيل الوصول إليها.
خامساً: تنعقد الخلافة للخليفة إذا بويع ممن يمثلون رأي المسلمين في الحكم, وهم أهل الحل والعقد, وأكثر سكان العاصمة.
سادساً: جواز أن يكون الخليفة غير هاشمي أو علوي.
إخوة الإيمان: هؤلاء بحق هم الرجال المؤمنون الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه, وأخلصوا دينهم لله فكانوا أهلا لنصره و تأييده.
ورحم الله القائل:
فتشبَّهُوا إنْ لمْ تكونُوا مِثـلهُمْ إنَّ التشبـُّهَ بالكرَام فـَلاحُ
إخوة الإيمان: وفي ختام هذه الحلقات نتوجه إلى الله بالدعاء
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا, وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا, وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا, واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير واجعل الموت راحةً لنا من كل شرّ.
اللهم أقرَّ أعيننا بقيام دولة الخلافة, واجعلنا من جنودها الأوفياء المخلصين.
اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشد, يعزُّ فيه أهل طاعتك, ويذلُّ فيه أهل معصيتك, ويؤمر فيه بالمعروف, وينهى به عن المنكر, وتقوم فيه دولة الإسلام.
اللهم أقم علم الجهاد, واقمع أهل الكفر والشرك والفساد، وانشر رحمتك على العباد يا ربَّ العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.