مع القرآن الكريم – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }.(آل عمران: 118 ـ 120).
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآيات: «… { لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } أي من غيركم من أهل الأديان. وبطانة الرجل هم خاصة أهله الذين يطلعن على داخل أمره… قال بن أبي حاتم… قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ههنا غلاماً من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو اتخذته كاتباً فقال: قد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين، ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمّة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب، ولهذا قال تعالى: { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ } وقال الحافظ أبو يعلى: كانوا يأتون أنَساً فإذا حدّثهم بحديثٍ لا يدرون ما هو أتوا الحسن يعني البصري فيفسره لهم قال: فحدّث ذات يوم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: «لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً» فلم يدروا ما هو، فأتوا الحسن فقالوا له: إن أنَساً حدثنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً» فقال الحسن: أما قوله: «لا تنقشوا في خواتيمكم عربياً» محمد صلى الله عليه و سلم، وأما قوله: «لا تستضيئوا بنار المشركين» يقول لا تستشيروا المشركين في أموركم. ثم قال الحسن: تصديق ذلك في كتاب الله { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ }…
ثم قال تعالى: { قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } أي قد لاح على صفحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهل ما لا يخفي مثله على لبيب عاقل ولهذا قال تعالى: { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } وقوله تعالى: { هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } أي أنتم أيها المؤمنون تحبون المنافقين بما يظهرون لكم من الإيمان فتحبونهم على ذلك وهم لا يحبونكم لا باطناً ولا ظاهراً { وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ } أي ليس عندكم في شيء منه شك ولا ريب، وهم عندهم الشك والريب والحيرة. وقال محمد بن اسحق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس { وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ } أي بكتابكم وكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك وهم يكفرون بكتابكم فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم رواه ابن جرير. { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأََنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ } والأنامل أطراف الأصابع… وذلك أشد الغيظ والحنق قال تعالى: { قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم فاعلموا أن الله متم نعمته على عباده المؤمنين ومكمل دينه، ومُعلٍ كلمته ومظهر دينه، فموتوا أنتم بغيظكم ]إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ{ أي هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم وتكنه سرائركم من البغضاء والحسد والغل للمؤمنين… { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } وهذه الحال دالة على شدة العداوة منهم للمؤمنين وهو أنه إذا أصاب المؤمنين خصب ونصر وتأييد وكثروا وعز أنصارهم ساء ذلك المنافقين، وإن أصاب المسلمين سَنَةٌ أي جدب أو أديل عليهم الأعداء لما لله تعالى في ذلك من الحكمة ـ كما جرى يوم أحد ـ فرح المنافقون بذلك. قال الله تعالى مخاطباً للمؤمنين. { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }، يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم فلا حول ولا قوة إلا به…»